هذا القلب الرقيق الصغير، وهذه البراءة والسذاجة.. الخيال الذي لا تحده حدود، والفرحة الحقيقية التي تثيرها أبسط الأمور، هذه الطفولة بكل معانيها تتعرض أحيانًا لهزات وصعوبات تلقي بظلال رمادية قاتمة على بهجتها، وتصبغها بالشيب وتبدل بساطتها وفرحتها تعقيدًا وحزنًا.
قد يتعرض الطفل لمحنة خاصة، كيتم أو تشرد أو تفكك أسري أو مرض، تعرض هذه المحنة مسار حياته للإضطراب ما لم تتلقاه يد حانية واعية تقيل عثرته وتكفكف دمعه.
ولكن الخرق يتسع على الراقع، وتطل الفتنة بوجهها القبيح عندما تكون المحنة جماعية، ففي بقاع مختلفة من عالمنا الإسلامي تدور حروب وإنتهاكات وفظائع تجعل الولدان شيبًا، وتفوح رائحة الخوف والحزن والصدمة من الشوارع والطرقات، حتى إن الأسر والعوائل أو ما بقي منها يتوه في هذا الخضم وينسى حق هؤلاء الصغار، الذين هم المخزون الحقيقي لأي أمة، وينسى الكبار أن رهق اللحظة الآنية وضخامتها سيزول، وأن الأيام دول، وأن هؤلاء الأطفال يجب أن يستمدوا ممن حولهم معانٍ وقيم وصمود بل وألوان من البهجة تقهر الصعاب وتضمد جراحهم لتعدهم لحمل الأمانة بقلوب غير واهنة.
وهذه بعض الإشارات للأسر، وللمربين، وللمجتمع بأسره لتحقيق هذا المطلب:
1= نماذج البطولة:
يعتقد الكبار أن الأطفال والناشئة بإمكانهم أن يتأقلموا مع مشاعر الألم المغلفة بشعارات الغربة، والحقيقة أن هذه النفوس الغضّة تتوق إلى نماذج البطولة، وتنبهر بقوة وصلابة وصمود الصالحين والمجاهدين، فهذا هو ما يعين نفوسهم وقلوبهم على تحمل المتاعب، وليست الكلمات والشعارات المجردة عن الصبر.
لذا فإن تربية أطفالنا على الإعجاب والتماهي مع قدوات الأمة قديمًا وحديثُا، وسرد قصص حقيقية عن صبرهم وصمودهم وشجاعتهم من أهم المعينات لهم على الإعتزاز بدينهم والتمسك به في عالم يتقلب في الفتن.
2= ولا تهنوا:
يبقى صمود الأم في مواجهة الصعاب خير تثبيت لصغارها، فالعالم بالنسبة للأطفال يبدأ من أمهم، مشاعرهم وأفكارهم تنطلق منها، والله تعالى الذي جعل للأم كل هذه المكانة، وحملها بهذه المهام العظيمة، رزقها قوة وقدرة على تحمل المسؤولية.. على التجلد ولملمة جراحها وحماية طيورها الصغيرة.
فيا زوجة الشهيد.. ويا زوجة الأسير.. ويا من تئنين في ظروف قاسية خارج موطنك وبعيدًا عن أهلك.. إصمدي وإرسمي إبتسامة الثقة بالله والرضا بقضائه، وإجعلي من وجوه صغارك زادًا لك لرحلة صبر جميل، والله سيمدك بمدد لا ينقطع من ألطافه ورحماته.
3= مهلًا أيها التلفاز:
ومع انطلاق ثورات الربيع العربي، وهبوب رياح خريفها، وتقلب الشعوب بين النصر والإنهزام، وإسترداد الكرامة وخوف ضياعها.. إحتل التلفاز بثرثرته التي لا تنتهي مكانًا عظيمًا في حياة الكبار والصغار، وأصبح الجدل سيد الموقف في كثير من الأحيان.. مما أصاب الجميع بتخمة كلامية، وصنع أبطالًا من ورق لا يظهرون إلا على الشاشات.
هذا الجو الذي فرض نفسه على البيوت يرهق نفوس الأطفال، ويشوش على تصوراتهم، والأمر يحتاج إلى قرار جريء لإيقاف هذه المهزلة التي تمكن فيها الرويبضات، وتكررت فيها الكلمات، وتبلدت النفس على وقع أخبار متشابهة.. قرار بالعودة إلى رحاب القرآن ودروس العلم، والتعاضد الأسري والعائلي على شعار التواصي بالحق والصبر بعيدًا عن شقاق قطع الأرحام، وبلبل النفوس.
ولا يعني هذا الأمر التعامي ودفن الرأس في الرمال والتوقف عن الإهتمام بأحوال الأوطان، بل هي بداية لمشاركة فعالة، والإنخراط في الحياة الحقيقية، والإكتفاء بهذا القدر من ترك الآذان والقلوب لكل تافه أو مرتزق أو حقود.
4= رجاء الآخرة:
في السراء والضراء يقع على المربي واجبًا عظيمًا وهو توجيه من حوله إلى طلب الآخرة، وترسيخ عقيدة أن العدل الكامل إنما هو يوم الحساب، إنها ليست دعوة لإعتزال الدنيا، أو فقدان الأمل في إحقاق الحق.. بل إن سنة الدفع، واليقين بأن الله يقذف بالحق على الباطل فيزهقه هي عقيدة المؤمن أيضًا، وهي تجد في اليقين بالآخرة معينًا لا ينضب، فإستحضار آيات الآخرة وفضل الله يوم القيامة يقوي القلوب، ويشد الأزر، ويجلي البصيرة.
فعلى رب الأسرة أن يذكر دومًا بآيات مثل: {ولَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [ابراهيم:42].
وقوله تعالى: {ونَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
5= إدخال السرور:
هذا حق الأطفال على ذويهم ومربيهم، فالطفل مجبول على حب اللعب، واللعب بالنسبة له شًغل، فتمكينه من اللعب ضروري، ومشاركة أوقات مرحة معه واجب الأبوين أو المربين، فهذه الأوقات السعيدة الهادئة الدافئة تنغرس في ذاكرته، وتشكل صمام أمان في وجدانه يحميه من موجات الإكتئاب والهلع والشتات الذي قد يحيط بنفسه المثقلة.
ومهما كان الوجع، ومهما بلغت الأمور، فيجب على الكبار ألا ينسوا أن هذه الناشئة هي أهم من كل ما ينشغلون به، وأن إقتطاع أوقات لهم ليس رفاهية يمكن تأجيلها، فهم ليسوا عبئًا إضافيا، بل هم الرقم الصعب في مستقبل التغيير، وهم وقود المستقبل.. فإذا ما نشأوا تعساء مهملين كانت عدة الغد فاسدة، يدب فيها الوهن، ويسهل إبتلاعها في دوامات الفكر المنحرف والأهواء.
إدخال السرور على الأطفال يحتاج في المقام الأول إلى إرادة من الكبار، وهو أمر لا يقل أهمية عن توجيههم وغرس القيم الإسلامية في وجدانهم.
والله أسأل أن يهيئ لأبناء المسلمين أمر رشد، وأن يحفظهم ويسترهم ويصرف السوء عنهم، وأن يرحم المستضعفين في كل مكان، ويغيث اللاجئين، وينزل رحماته وألطافه على أبناء الشهداء والأسرى في كل بلاد المسلمين.
الكاتب: مي عباس.
المصدر: موقع رسالة المرأة.